لم تعد حبوبي المهدئة تحتمل ألمي أو تحتملني، أبالغ بابتلاع حبوبي المهدئة لئلا استيقظ على خيبتي، الكحول تزيد من حزني بشكل كبير فبعد عدد من الكؤوس أدخل في حالة عجيبة من الحزن واليأس، لهذا قررت أخيراً أن أستمع لكلام صديقي، فلن يلهيني عنه سوى مخدر قوي، سينتزعني المخدر من عالمي تماما سيضفي اللون والطعم والرائحة على يومي، سيعيد بعضاً من حواسي المعطلة تماما الآن، سأطير منتشية وأعاود الحلم مع التحليق، لا زلت أملك الكثير لأنفقه على هذا الإحساس، لا زلت أملك المال والشباب، وسأنفقهما على استعادة احساسي بالحياة.
تناولت هاتفي النقال من جانب سريري الذي لازمته كثيراً منذ فراقنا، متثاقلة بصداع رهيب بحثت عن رقمه وضغطت على خيال الإشارة الخضراء، سمعت صوته البعيد وبدون مقدمات قلت له إني أحتاجك، لا بل أحتاج ما يجعلك منتشياً لتبدع، رأيت ابتسامته عبر الهاتف وباقتضاب قال: إذاً سأوافيكي في وسط القدس بعد ساعة وسنحضر مأونتنا سوياً.
تثاقلت وببطء شديد ارتديت ملابسي، لم احتار فيما أرتدي بل كل ما عرفته أنني كنت بحاجة للون الأسود، اختارت اللون يداي دون أي مساعدة مني، ارتديت الملابس واتجهت إلى موقف الباص الذي يقع على بعد شارعين من منزلي بكسل كبير كنت أمشي لفحني الهواء وكأن الريح كانت تصفعني على وجهي باستمرار، كنت أفكر بشكل مبعثر لطالما توجهت إلى هذا الموقف راقصة فرحة بأبهى حللي منتظرة مروره من هنا ليقلني إلى مخبأنا السري، كما كان يحب أن يطلق عليه (مخبأنا السري): "كل ما بيننا جميل لأنه سري، وأنت أجمل أسرار حياتي وأبهاها"، "أنا سعيد بمجرد مرورك بحياتي"، "أحلم بخيانات مستمرة"، "ما بيننا شيء وثني لا نسيطر عليه"، "لن يتغير ما بيننا ما حيينا"، "أي تغيير بحياتي لن يؤثر فينا"، جمله تسيطر على رأسي أحبها أعيشها وأكره هشاشتها وهشاشتي من دونه، أجل إنني أريده قربي بكماله البهي، أحن لكل التفاصيل حتى من كان منها مؤلماً، أن أعيش بالألم معه خير من أن أعيش الألم بدونه، اللعنة على الحياة، اللعنة عليي، اللعنة عليه وعلى نسله.
استقليت الحافلة (الباص) وتوجهت لمحطة الباصات المركزية في وسط المدينة، كانت رؤيتي ضبابية فكل الأفكار التي طرأت على رأسي كبرت غصتي في الحلق وملأت عيناي بالعتمة، لم أميز أمامي أحد واصطدمت بالكثيرين أثناء توجهي لمكان اللقاء، هناك عند زاوية المصرارة مقابل باب العمود وقفت منتظرة، اتكأت على عمود الكهرباء العتيق وأخرجت من حقيبتي سيجارة وبدأت انفث دخانها في المكان، لا زلت أختار نوعه المفضل من السيجار واشتم عبقه يتخلل رائحة الدخان المنبعث من السيجارة، امتلأت وامتلأ المكان من حولي برائحة الدخان، وانعدمت الرؤية أمامي تماماً.
وسط الدخان وأنفاس الذكريات المتقطعة والانهمار لمحت صبياً لم يتجاوز الخامسة عشرة يقف بجانبي مبتسماً مع عربة ترمس متللة ومزينة بقطع الليمون ونثرات من البقدونس الذابلة، لم يستطع الحفاظ على هدوء ابتسامته مع الركض المفاجئ للباعة من حولنا، فشرطة البلدية قادمة للمكان، هبطوا بجانبي بشكل مفاجئ وانقضوا على الصبي قبل تمكنه من الهرب قلبوا العربة وقلبوا رأسه معها، تساقط منهمراً على الأرض مع حبات الترمس المبعثرة، صرخ بعويل طويل اخترقني في القلب وتخيلت المشهد كاملاً، أمه وأخوته يفتحون أفواههم للسماء، ووالده يصرخ غاضباً في وجه الحياة منكمشاً على كرسيه المتحرك باكيا لاعنا غاضبا وعاجزا في آن واحد، لم تكتمل صورتي التي رسمتها بعد لتقطعها حركة المكان، الجميع يركض من حولي، قيدوا الصبي المرتبك واصطحبوه معهم بينما أنا لا زلت اقف بجمودي وعيناي، برغم تشوش الرؤية، معلقتان بهذا الصبي إلى أن أيقظتني يد صديقي الساقطة على كتفي:
- ها ... تأخرت؟
- جداً........
أشار لي بعينه ليدلني على رجلنا الذي كان يقف بالمكان أيضاً، فغرت فاهي مشدوهة قائلة بصوت خافت: انتظر ذهاب رجال الشرطة.
ضحك ورد: إنهم ليسوا المعنيين بالمكافحة أنهم مجرد شرطة تتبع البلدية، تعالي وهاتي ما معك من نقود.
- مئتا شيكل... تكفي؟
- أجل .. لن تحتاجي أكثر من ذلك في البداية.
نظرت حولي وكأني لم أعد أعرف المكان، رأيته يأخذ ورقة من القصدير ملفوفة بعناية ويضعها بجيبه ليحضر لي ورقة أخرى ويضعها بيدي، وأنا لا أزال أنظر إلى شرطة البلدية الذين شهدوا العملية كما شهدتها أنا، ابتسم صديقي ثانية وقال بصوت عالٍ اسمع الكثيرين من حولنا: مرحبا بك في عالمنا... لا تنسي استنشقيها دفعة واحدة.
أخفيت حصتي مسرعة ودون أن أنظر إليه أو أن ألقي عليه التحية انسحبت مسرعة من المكان علّي أخفي رجفة قلبي وجفاف حلقي والأهم ..خوفي من الجميع، ألتفت يمينا ويساراً ورأيت تلك تتفرس بوجهي تعرف كل ما بي، ابطء قليلا في مشيي فالشاب ورائي يلاحقني، أعرف انه سينقض فجأة ويصرخ أمام الجميع ليمسكوا بي، انهم يعرفون ذنبي ويعرفون أيضاً أنني أحمل خدري، أركض أركض مسرعة في الطريق افسحوا لي مكاناً للهرب فأنا لم أؤذيكم، أنا فقط من تأذيت.
قفزت إلى داخل الباص وهو يخرج من المحطة ومددت نقودي للسائق دون انا انتبه للبقية، وجدت مقعداً جاهزاً لاستقبالي، مقعد وحيد بجانب الزجاج، جلست والتصقت بالزجاج، نظرت بشرود لانعكاس وجهي فتنبهت كل حواسي فجأة، من هذه الغريبة؟ هي أنا؟ استدرت مبعدةً وجهي عن هذه الغريبة التي لم أعد أعرفها، كأني أستنكر وجودها من دونه، كأنني من قبل ولدت له وتهيأت له ولشهواتنا معاً، لم يكن وحده من أرادني لقد أردته بكل حواسي، كنت أرتعش بمجرد سماع صوته وأبلغ نشوتي كاملة عندما كان يمسك بيدي، أكره نفسي الآن أكره تفاصيل وجهي وعنقي أكره كامل جسدي لأنه يذكرني به، هل كان علي أن أمنع نفسي عنه؟ وهل كان سيبقى معي بعضاً آخر من الوقت لو لعبت معه لعبة الصد الغبية؟ هل كان علي أن أغضب وأزمجر وأثور لكل ماحصل لأشعره بحاجتي لوجوده معي؟ شردت تماماً عن ما حولي وتلمست رفيقتي الخبيثة التي وضعتها في جيبي وهمست لها ستكونين صديقتي إني أعتمد عليكي لتضعي حداً لوهني ووهن أعصابي، توقف الباص وأنا في منتصف حديثي مع صديقتي الجديدة لأجد نفسي أما حاجز رام الله، لم أعرف كيف وصلت لهذا المكان وكيف بعدت هذه المسافة عن المنزل، ارتعش جسمي بشكل كامل لأنني أدركت تماماً أنني أفقد عقلي.
قررت أن أنزل من الباص وأترك المسير لقدمي، كانت الاصوات تعلو وتعلو وتعلو من حولي وسمعت كما أسمع بالحلم صوت الرصاص ومشيت، مشاهد .. مشاهد صارت تومض أمامي.. رجل يسقط على وجهه، فتاة تركض هلعة، طفل يختنق بسعال يخرج من قلبه، رضيع مصفر، ضباب، صياح، تهليل، تكبيرات، وهناك بين هذه المشاهد شاهدته ممدداً ينز الدم من جسمه بهدوء وعيناه معلقتان في المغيب، هو يعلم أنه لن يعود وأنا أعلم أنني الآن غائبة، فجاجة الموقف اصمتت كل الأصوات من حولي، واصبح جسده يقترب مني مع خيالات المكان، تحرك رأسه باتجاهي ووجه إلي نظره مباشرة اخترقتني النظرة واخترقني الصمت الذي تلاها.
بديناميكية غريبة ودعت المكان، ودعته وهو يغيب بين الأيدي كمحاولة لاعادته، أعبر ممرات الحاجز كامرأة آلية، المسرب الأول فبوابته، الضيق يشتد وأصل لبوابة التفتيش، يومض الضوء الأخضر ليسمح لي بالمرور، أخرج الهوية وألصقها للمجندة على الزجاج مع شعوري المعتاد في هذا المكان بطعم القيء في حلقي، أركب الباص ثانية لأعود إلى بيتي كأن شيئاً لم يكن.
لم يلبث أن تحرك الباص حتى نظرت الفتاة التي تجلس بقربي إلي فجأة، جمعت مخاطها كاملاً وبدأت تبصق على وجهي بصقات متتالية، تجمدت أوصالي وأنا أبحلق بها مندهشة وأتلقى بصاقها على وجهي، حاولت أن أداري وجهي عنها ونظرت إلى الجهة المقابلة حيث شغلت المقعد إمرأة حامل تضحك بشكل هستيري ناظرة للفراغ، راقبتها وهي تمد يدها إلى داخل بطنها مخرجة رحمها الممتلئ لتبدأ بتمزيقه بجنون وتنثر قطعه على الجميع، اعتصرتني من الداخل وأحسست أن رحمي هو الذي يتمزق ويرشق الدم على وجهي، نسيت أمر البصاق تماما وبدأت أجهش بالبكاء.
في المنزل وقبل أي شيء حاولت التخلص من الدم وقطع اللحم عن ملابسي واللزوجة عن وجهي، فركت وجهي بشدة لأزيل أثر اليوم كاملاً، لكني توقفت مدركة أني لو أزلت ألم اليوم سيعاودني ألم الغياب، امتدت يدي إلى جيبي فوجدت صديقتي مازالت هناك تختبء بخبث، راودتني فكرة أن أبعثرها في الماء المنساب أمامي، وتذكرت الألم الذي يرافقني بالاضافة إلى تذكري لحمل يومي هذا، داعبتها بيدي، صمت وشرود وعيناي تنظر لانسياب الماء.
لونا داود عريقات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق