"لأنني لم أولد وفي فمي ملعقة من ذهب مملوءة بدواء مخدر، لأنني ولدت بسعال مقلق كنحل الأسئلة وبين يدي محبرة تشبه اللغم وقلم يشبه السكين، قرروا أني طفلة مفخخة بالمجهول إلا إذا استطعت اثبات براءتي كل يوم، كل يوم أهرب منهم إلى سفينة نوح، في طريقي أرى قابيل وهابيل وآدم يراقص الأفعى متهماً حواء بخيانته مع تفاحة، ابليس يعزف على قيثارته نيرون يصفق معجباً وهو يدخن المدينة في غليونه، عطيل يقتل ديمونة أهرب وأنا أعرف أن علي أن أدفع ثمن خطاياهم جميعا لمجرد أنني امرأة "1.
أقف اليوم أمامكم كامرأة فلسطينية، عانت ظلم الاحتلال وظلم المجتمع، كانت الرفيقة والشريكة في النضال السياسي وضحت وقاومت جنباً بجنب مع الرجال، وكانت الأخت والأم والإبنة المدبرة الحكيمة،
أقف اليوم بما يترسخ في من إيمان بضرورة المدافعة عن الانسان، المدافعة عن الارض، والمدافعة عن الكرامة والانسانية، بما يشمل الانتهاكات التي أراها في بلدي فلسطين حديثة الاعتراف دولياً، وحديثة الالتزام رسمياً بانضمامها لمجموعة من الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، هذا الالتزام الذي نتج كجزء من إيماننا كفلسطينيين بأهمية الانسان وحفظ كرامته وأهمية الوصول إلى الحقوق كافة دون تحفظ، كشعب عانى الكثير من الانتهاكات الناجمة عن الاحتلال بشكل فج، أنا هنا اليوم كإمرأة شريكة في بناء الوطن، شريكة في الالتزامات، وشريكة في الحقوق دون تمييز، كإمرأة فلسطينية اعتادت النضال في سبيل الحقوق الوطنية، وتستمر في النضال للوصول إلى حقوقها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، دون أولويات تقف أمام احتياجاتنا كنساء في هذا الوطن، ودون تأجيل لقضايانا أمام قضايا التحرر الوطني، فتحرر المرأة هو ركن أساسي من تحرر الوطن.
السادة والسيدات الحكام
قضيتي تتحدث عن سنين من الظلم الذي تتعرض له النساء، جراء منظومة القوانين القديمة وغير المتناسبة مع بعضها والمطبقة في فلسطين، فحتى هذه اللحظة ما يتم تطبيقه من قوانين تعني النساء في الضفة، مختلف عما يتم تطبيقه في غزة، وحتى منطقة الضفة؛ فإن قوانين مدينة القدس تختلف عن باقي مناطق الضفة، وأخص بذلك كل من قانون الأحوال الشخصية وقانون العقوبات، القانونان الأساسيان اللذان يتعلقان بالنساء، بما يتضمن قضايا الأسرة وقضايا العنف الممارس على النساء.
تبدأ قضيتي بما تعرضت له سعاد، وهي سيدة في أواخر الثلاثينات، تم تزويجها قسراً من أحد معارف الأسرة، لتبدأ معاناتها معه وهي في سن الطفولة، حيث لم يتعدَّ عمرها آنذاك السادسة عشر، خلافاً للمادة 16 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان والمادة ١٦ الفقرة ١/ب من اتفاقية سيداو؛ والتي تنص صراحة على الحق في اختيار شريك حياتها، والفقرة ٢ المتعلقة بتحديد سن أدنى للزواج، وبتعارض مع المادة 10 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والمادة 23 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966.
ولا تنتهي القضية هنا وإنما تستمر؛ فالزوج لم يكن معها في يوم كما تتمنى، بالرغم من أنها لم تطلب الكثير وخاصة بعد أن أنجبت أبناءها الأربعة، علي وندى وربى وريم، لتتصاعد بعدها المشاكل داخل الأسرة، ويتطاول الزوج على ندى -ابنته الكبرى-، ويتحرش بها وهي في الحادية عشرة من العمر، فما كان من سعاد في هذه الأثناء إلا أن تتنازل عن كافة حقوقها الشرعية والمترتبة عن عقد الزواج لتحصل على الطلاق، الطلاق المعلق بشكل مطلق بإرادة الزوج حسب القانون، حيث يستطيع الزوج وبمجرد رغبته المنفردة بانهاء الزواج، أن يتوجه إلى المحكمة أو أن يتلفظ بالطلاق وينهي العلاقة الزوجية، بينما لا تمتلك النساء إلا طلبه في حالات حددها القانون، أو بمقابل التنازل عن كافة حقوقها، بتعارض آخر مع مواد الاتفاقيات والعهود سابقة الذكر، التي أقرت بتساوي الزوجين في انهاء هذه الرابطة الرضائية بالأساس، ومن هنا يبدأ فصل جديد من المعاناة الاجتماعية والاقتصادية لسعاد، فمن حكم بالنفقة كحق لأبنهائها لتسيير حياتهم اليومية، وكجزء من التزام الأب بالصرف على أبنائه، وبمبلغ لا يتجاوز ٨٠٠ شيكل شهرياً للأطفال الأربعة، إلى التمييز الممارس من المحيط، والوصمة الاجتماعية التي تم وصم سعاد بها كإمرأة مطلقة، فكل حركة لها محسوبة بألف حساب، ضمن مجموعة الصور الاجتماعية المشكلة عن المطلقات، والتي تضع على أساسها الكثير من الحدود والضوابط المرتبطة بشكل كامل بالنظرة الدونية للمرأة وبالسلطة الذكورية الاجتماعية.
كل هذه الأعباء تحملتها سعاد لمدة سنة كاملة، إلى اللحظة التي طالب بها طليقها بضم أبنائه إليه، فحسب قانون الأحوال الشخصية الأردني رقم 61 للعام ١٩٧٦م المطبق في الضفة، فإن الحضانة تبقى مع الأم لغاية سن البلوغ المرتبط بالتغيرات الفسيولوجية، التي عادة تحصل في السنوات من 11-14 سنة، ومن ثم يتم تخيير الذكور ويكون القرار لهم بالبقاء مع الوالد او الوالدة، أما الإناث فتنتقل حضانتهن إلى والدهن بمجرد وصولهن لسن البلوغ ويستطيع الولي "وهو الأب هنا" أن يقوم برفع قضية يضم ابنته إليه، حسب المادة 165 من القانون المذكور، لم تكن هناك إشكالية تذكر مع علي فقد خيره القاضي بين حضانة أمه أو أبيه فاختار أمه، وبقيت حضانته معها مع بقاء نفقته على والده، أما ندى تلك الطفلة التي تعرضت للتحرش من والدها تم ضم حضانتها للأب ، ولم يقم أحد بتقديم دعوى قانونية لمصلحتها، بسبب قصور القانون في التعامل مع هذه النوعية من القضايا؛ حيث اقتصر قانون العقوبات على ذكر كل من جرائم الاغتصاب وهتك العرض وسفاح القربى فقط.
وبالرغم من وجود شكوى تحرش لدى الشرطة والتي تم سحبها خوفاً من الفضيحة وحفاظاً على سمعة العائلة، وبالاضافة لكل هذه الأوضاع النفسية الصعبة السابقة التي تعرضت لها، قام والدها برفع قضية ضم يطالب بها أن تعود ابنته ندى إليه.
وهنا وكبداية للاجراءات، كان لا بد من حضور ندى للمحكمة، ولا بد من أن يتحقق القاضي منها ومن مظهرها ليتأكد من مسألة بلوغها، بانتهاك آخر لبراءة هذه الطفلة بمواجه منظومة إجراءات قديمة، لا تراعي المصلحة الفضلى للطفل التي وردت بشكل مباشر في المادة 3 من اتفاقية حقوق الطفل، التي أولت الاعتبار الأول لمصلحة الطفل الفضلى في جميع الاجراءات التي تتعلق بالطفل سواء كانت عبر المحاكم أو عبر التدابير التشريعية والادارية، وبما يتعارض مع ضمانات فرص الاستماع للطفل في الاجراءات القضائية والادارية التي تمس الطفل مباشرة، بتمييز للأطفال الذكور عن الإناث، والتي وردت في المادة 12 من الاتفاقية ذاتها.
لتليها إثارة مسألة التحرش أمام القضاء، ولكن وحسب القانون والاجراءات كان لا بد من إثبات هذا التحرش، ومع كل التعاطف من الجهات الرسمية كافة، إلا أنهم وقفوا عاجزين أمام قانون لا يعترف إلا بالبينة الخطية؛ المتمثّلة بورقة إثبات صادرة عن جهة رسمية مثل ورقة حكم محكمة مع كافة المقتضيات القانونية، أو البينة الشخصية؛ المتمثّلة بشهادة الشهود على واقعة التحرش أو اعترافه وإقراره بجريمته أمام القضاء، بما لا يتلائم مع المادة 19/2 من اتفاقية حقوق الطفل، التي أعطت الصلاحيات لتدخل القضاء حسب الاقتضاء لحماية الطفل من كافة أشكال العنف والضرر والإساءة، من خلال تدابير تشريعية وإدارية تضمن عدم الاساءة.
وبناء عليه، ومع إنكار الأب لمسألة التحرش، ومع عدم وجود البينة الخطية تم الحكم بضم ندى لوالدها، إلا أننا تمسكنا بالقشة الأخيرة وهي رفض تسليمها لوالدها، لتسقط بناء على ذلك نفقتها عنه، حيث أن المادة ذاتها والتي تسمح بضم البنات لحضانة الوالد أشارت إلى أن عدم خضوع الفتاة لقرار الضم يفقدها حقها في الحصول على النفقة الشهرية المقرة لها.
ندى ليست الطفلة الوحيدة التي لم يتم تخييرها، هناك ميرفت التي تم أخذها من جدتها لأمها في بيت لحم إلى أعمامها في الاردن، فقط لأنها أصبحت طفلة بالغة تنتقل حضانتها لأبيها أو أعمامها بدون اي اعتبار، أُجبرت على هجر حياتها ومدرستها هنا، فقط لان الانثى لا تخير! وهذا يناقض تماما مبدأ اساسيا تقوم عليه اتفاقية حقوق الطفل ، ألا وهو المساواة وعدم التمييز على أساس الجنس أو اي اعتبار آخر، المساواة في تمتع الطفلة بكافة الحقوق تماما كما الطفل الذكر.
السادة والسيدات الحكام
أعرض عليكم قضيتي كجزء من إيماني بقواعد العدالة والمساواة التي نص عليها الاعلان العالمي لحقوق الإنسان والتزمت بها دول العالم، وكجزء أساسي من الالتزام الذي أكدته دولتي على مبدأ المساواة وعدم التمييز وضمان المصلحة الفضلى للأطفال دون النظر إلى جنسهم، بالاعتماد على الاتفاقيات التي وقعت عليها في 1/4/2014م، والتي تتضمن كل من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية والمدنية 1966، واتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة 1979، بالاضافة إلى اتفاقية حقوق الطفل1989.
إنني هنا وأمام مجموعة الانتهاكات الواردة في قضيتي هذه، أطالب تحقيقاً للعدالة وتأكيداً على رغبة دولة فلسطين بالالتزام بمعايير حقوق الإنسان، ومنها حقوق النساء الدولية، وعدم تحفظها على أي من المواد في الاتفاقيات التي وقعت عليها، وعلى رأسها كل من اتفاقية سيداو التي تحقق الضمانات الأساسية لمناهضة كافة أشكال التمييز ضد المرأة، واتفاقية حقوق الطفل التي تضمن المصلحة الفضلى للطفل دون تمييز،
إنني من هنا ومن هذا المنبر أطالب دولتي بملائمة تشريعاتها الداخلية مع التزاماتها الدولية؛ التي أعلنت عنها صراحةً امام المجتمع الدولي من خلال توقيعها، وأخص بالذكر ما يتعلق بقانون الأحوال الشخصية؛ ضمن مواضيع الولاية في تزويج النساء والوصاية على الأبناء والحضانة والزواج والطلاق.
بالاضافة إلى ما يتعلق بقانون العقوبات؛ ضمن مواضيع الاعتداءات الجنسية التي يندرج تحتها الاغتصاب وهتك العرض، وأضيف إلى ذلك أهمية التعامل مع قضايا العنف الأسري بمسؤولية أكبر، بحيث يتم إقرار قانون فلسطيني لحماية الأسرة من العنف،
كما وأدعو أصحاب القرار أيضاً، برفع الضمانات لتطبيق اتفاقية سيداو، من خلال التوقيع على البروتوكول الملحق بالاتفاقية، لما فيه من ضمانات تعزز من حقوق النساء في مواجهة التمييز واقصاء النساء وتهميشهن.
إننا كبشر ولدنا متساوين في الحقوق والواجبات نتعاون بتكاملية وانسجام تام، لم نولد نساء قاصرات ولكن المجتمع هو من شكّلنا كنساء يترقبن قدرهن في أعين الرجال، سنطلق لأرواحنا العنان معكم لنحلق في فضاء الإمكان، ليزدهر مجتمعنا بتشكيل فسيفسائي باهي من أيدي كافة مواطنيه دون تمييز ودون إقصاء.
________________________
1- مقتبس من مذكرات فتاة في معهد تأهيل الفتيات بدمشق.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق